ترجمة: الأستاذ نورالدين بن مبروك
في إنجلترا القرن السابع عشر، كان الحديث عن الإسلام طريقة لانتقاد القوى السياسية الموجودة. فعندما جاء في مقدمةٍ للترجمة الأولى للقرآن الوصفُ التالي: “قائد عصابة من الهاربين”، هل كان المستهدَفُ النبيَّ أم أوليفر كرومويل (Oliver Cromwell)؟
في أبريل 1649، بعد ثلاثة أشهر فقط من إعدام تشارلز الأول (Charles I) وإنشاء الكومنولث، نُشرت أول ترجمة باللغة الإنجليزية للقرآن. المترجم المجهول (والذي عرفه بعض الأكادميين على أنه توماس روس –Thomas Ross) لم يكن يعرف اللغة العربية، لقد استخدم الترجمة الفرنسية لأندريه دي ري (André de Ryer) التي نشرت في 1647. أثارت الترجمة المطبوعة قلقا. وألقت سلطات الكومنولث القبض على الناشر، روبرت وايت (Robert White)، وصادرت النسخ المطبوعة. وفي نهاية المطاف عقدت جلسة استماع برأت جميع المتورطين وأذنت بنشر الترجمة.
ومن أجل استرضاء القراء وتبرير الترجمة، كتب ألكساندر روس (Alexander Ross) ،قسيس البلاط السابق، “تحذيراً” مختصراً يهدف إلى طمأنة قرائه بأن نشر القرآن باللغة الإنجليزية ليس بالأمرالخطر. وليس من الواضح إذا كانت اللجنة البرلمانية قد طلبت منه إدراج هذا التحذير، أم أنّ قريبه توماس روس (Thomas Ross) ،أو غيره من المشاركين في المشروع، رأوا أنه من الحصافة إعطاء اسمه للمشروع. وعلى أية حال، يؤكد ألكساندر روس (Alexander Ross) أن أخطاء محمد ليست أسوأ من أخطاء الكثير من الهراطقة البروتستانيين والذين يمكن العثور على أعمالهم في أي مكتبة من المكتبات. وكان تبريره الأساسي لترجمة القرآن هو أنها أشد الوسائل فاعلية “لتعرية” محمد “المنافق الكبير”.
كتب توماس روس (Thomas Ross) مقدمة عنوانها “من المترجم إلى القارئ المسيحي”، يبرر فيها نشر ترجمة القرآن وينتقد في الوقت نفسه وبطريقة ضمنية سلطات الكومنولث التي كانت حاولت إيقاف نشر الترجمة. ويؤكد فيها أنه لا خطر من أن نصا “غير مهذب” و “غير متوافق” مثل هذا النص لا يمكن أن يغوي الإنجليزيين أكثر من إغواء غيرهم من الأوروبيين الذين ترجم القرآن إلى لغاتهم. إذن لماذا حاولت سلطات كرومويل (Cromwell) منع نشرها؟ وبالطبع لم يكن روس يستطع انتقادهم انتقادا علانيا، ولكنه أعطى فكرة جيدة عما يعتقده:
(القارئ المسيحي) على الرغم من أن البعض، وهم يدركون عدم ثباتهم على الدين، وعدم ثبات الآخرين (مثل الأتراك أيضا في هذا) الذين يتبعون ازدهارهم وآرائهم؛ لا يرغبون في أن يرى هذا الطباعةَ، ولكنني، إذا كنتَ متبعا صادقا للدين الأرثوذكسي وحتى تبقي نفسك غير ملوثة بسفاهاتهم، واثقٌ من أن هذا لن يضر بك: أما بالنسبة لأولئك الجماعة، بعد أن تركوا شمس الإنجيل، فإني أعتقد أنهم سوف يضلون في الظلام، باتباعهم الأنوار الغريبة، مثل ضوء هذا القرآن الخادع والمضلل. كما هو، أنا أقدمه إليك، بعد أن تحملت فقط آلام ترجمته من الفرنسية، ولست أشك، على الرغم من أنه سم، وأنه أصاب جزء كبيرا من الكون ولكن غير الصحي منه، في أنه الترياق الذي يؤكد فيك صحة المسيحية.
خاطب روس (Ross) القراء الذين كانت مسيحيتهم راسخة وقوية، وبمعنى آخر، تم تقديم الأنجليكانية على أنها “دين أرثوذكسي”. وخلافا لهؤلاء “المسيحيين الأرثوذكس” توجد “مجموعة” هؤلاء الذين لم يعودوا يتبعون الإنجيل، الذين يُظهر سلوكهم “عدم الثبات على الدين”: وهم الأتراك، ولكن أيضًا هم الكرومويليون الذين قتلوا الملك وهاجموا الكنيسة.
سيرة معادية عن “ماهوميت”
يخفي توماس روس انتقاداته ذات التوجه الملكي للنظام البرلماني في جدالاته المعادية للمسلمين. ويقدم سيرة ذاتية وجيزة وبصورة انفعالية وعدائية للغاية عن “ماهوميت” (Mahomet)، “الوثني الشرير”، اليتيم الذي قام عمه عبد المطلب ببيعه لتجار الرقيق الإسماعيليين (Ishmaelite). ووقع في نهاية الأمر في براثن راهب نسطوري يدعى سرجيوس (Sergius)، الذي علمه عقائد الهرطقة، منكرا الثالوث وسر التجسد، وداعيا إلى أن اليسوع لم يكن سوى رجل قدِّيس ونبي. وماهوميت (Mahomet)، الذي كان يرغب بشدة في أن يكون نبيًا محترمًا، “اعتزل إلى كهف منزوٍ” وترك سيرجيوس (Sergius) يدعو الناس ويشيد بالنبي الجديد. وأراد الله، برحمته، أن يضع ماهوميت (Mahomet) على الطريق المستقيم فأصابه “بالمرض المقدس” (الصرع) ، ولكن ماهوميت (Mahomet) “وبدلاً من التوبة، مضى قدما في تصميمه الشرير”: فقد زعم أن نوبات الصرع التي تصيبه كانت نتيجة لحضور رئيس الملائكة جبرائيل: وهذا الأمر أحدث المزيد من الاحترام والتقديس.
لكن ما يهم روس (Ross) هو مشروع ماهوميت (Mahomet) للثورة السياسية تحت ستار الإصلاح الديني. ويفسر قائلا: وبما أن ماهوميت (Mahomet) لم يرضَ أن يكون نبيًا، فقد خطط ليصبح ملكًا. وتحقيقا لهذا الغرض، خضع إلى غرائزهم الأساسية من خلال السماح بتعدد الزوجات وبوعدهم بإقامة في جنة مليئة بالبهجات الحسية. هكذا، يقول روس (Ross)، تمكن ماهوميت (Mahomet) من جذب “مجموعات كثيرة من الناس، ولكنها مبتذلة”. تماما مثل ما فعل كرومويل (Cromwell)، قد يميل روس (Ross) إلى القول (ولكن بالطبع لا يتجرأ). ومسألة أن البرلمانيين هم موضوع هذه الصورة لماهوميت (Mahomet) تصبح أكثر وضوحا في ما يلي. فقد “اكتسب تحت ذريعة إصلاح الدين، أتباعا كثيرين”؛ والآن “صمم على أن يربط بها ذلك الذي يصاحب الاضطرابات الشعبية ألا وهو الحرية، ومعلنًا أنها إرادة الله”. واحتج الثوار الإنجليز بالإصلاح الديني (تسامح أكبر وكبح ثروات الكنيسة الأنجليكانية وتأثيرها) وأكدوا على حرية الشعب الإنجليزي في الحكم الذاتي. وماهوميت (Mahomet) فعل نفس الشيء: إنه يحرر عبده زيد باسم الحرية العالمية.
هذا الإغراء، بما أنه عزز من شهرته، كذلك زاد من حاشيته؛ فجموع كثيرة، بسبب البدعة المؤثرة، وتغير الظروف، كانوا يوميا ينضمون إلى حزبه؛ لذلك هجر العبيد من جميع أنحاء الجزيرة العربية أسيادهم، وهربوا إليه كمخلص لهم، واعتنقوا شريعته، كوسيلة لخلاصهم. هذا عن طريق انبهارهم المغرور بتقواه، وكانوا مستعدين للتضحية بحياتهم بأمر منه، وقسمهم إلى كتائب، وأرسلهم لسرقة قوافل التجار الذين يسافرون عبر الصحراء؛ وبهذه الطريقة، ازدادت ثروته عن طريق الغنائم؛ واتسعت حاشيته بصفة يومية بعدد كبيرمن الهاربين والمتشردين، الذين بسبب هذه الحرية وبتصرفهم الشرير لجأوا إليه؛ وقد أطال التفكير في استعمالهم لتثبيت شريعته، التي كان يعرف أنها طريقه الجاهزة لتأسيس حكمه، بتلك القوة التي كان يطمح إليها.
وبعبارة أخرى، ماهوميت (Mahomet) هو مثير للفتن وثوري: إنه كرومويل (Cromwell). إنه قائد مجموعة من الهاربين والمتشردين الذين يسعدون بالسرقة والنهب ويمجدون أفعالهم من خلال التذرع بالحرية؛ مجموعة من الأشرار الفاسدين الذين يدوسون بأقدامهم وبسرور مذاهب المسيحية الأرثوذكسية وصلاحيات الكنيسة. بالفعل إن ماهوميت (Mahomet) هو كرومويل (Cromwell)، أو بالأحرى إن كرومويل (Cromwell) هو ماهوميت (Mahomet). ولا يستطيع توماس روس (Thomas Ross) أن يقول أيا من القولين، لأن مشاكله ستكون أكبر بكثير من تلك التي واجهها فعليا مع مجلس الدولة. فقد ألقي القبض عليه في عام 1654 بتهمة الخيانة (في قضية ليس لها علاقة بترجمته للقرآن)، ثم أطلق سراحه بكفالة؛ وبعد ذلك ذهب إلى كولونيا للانضمام إلى تشارلز الثاني (Charles II) في المنفى.
كرومويل ومحمد
كما قارن كتاب ملكيون آخرون كرومويل (Cromwell) بمحمد. يقول لانسلوت أديسون (Lancelot Addison) في كتابه الدولة الأولى المحمدية (First State of Mahumedism، سنة 1678) إن محمدا “قد أدار طموحه وظلمه، تحت عباءة الدين، كما لم يثبت أبداً وجود من يقف معه في هذا على قدم المساواة: أقرب نسخة وأكثرها دقة لهذا الدجال العظيم هي الغاصب الأخير – وهو يقصد بالطبع كرومويل (Cromwell). وانتقد ملكيون آخرون الحكومة لأنها سمحت بنشر “القرآن التركي” (Turkish Alcoran)، مما يدل على عدم إيمانهم، (بينما بينت رغبتهم، بالنسبة لتوماس روس، في فرض الرقابة على نشره، أنهم مثل الأتراك). وبالنسبة إلى الملكيين، فإن كرومويل (Cromwell) و”جماعته”، مثل محمد والأتراك، أهانوا الدين وهدموا أسس الحكم الصالح.
وفي أثناء إهانة الملكيين والبرلمانيين لبعضهم البعض عن طريق المقارنات بمحمد، تماما مثل الكاثوليك والبروتستانت، الذين بدأوا القيام بذلك في القرن السادس عشر، خفت حدة الجدل في هذه المقارنات. وفي خضم الخلافات حول الأنظمة الدينية والسياسية، أصبح الإسلام واحدا من بين العديد من العقائد المتنافسة، ليس أفضل من الطوائف المسيحية العديدة ولا أسوأ منها. وأصبح التسامح الديني للإمبراطورية العثمانية بالنسبة لبعض الإنجليز نموذجًا يحتذى. ومع ذلك، لم يقدم أي من هؤلاء المؤلفين النبي محمد كشخصية إيجابية.
لا شيء تغير، إلى أن كتب هنري ستوب (Henry Stubbe) كتابه أصل الديانة المحمدية وتطورها (Originall & progress of Mahometanism) في عام 1671. ويصف ستوب (Stubbe) النبي المسلم بأنه مصلح عظيم حارب الخرافات وجعل سلطة رجال الدين المسيحيين غير شرعية وسعى إلى العودة إلى توحيد خالص لا تشوبه أي شائبة. محمد عند ستوب (Stubbe) هو مصلح ديني، وحاكم محبوب ومحترم ومشرع حكيم. وبذلك يصبح ستوب (Stubbe) أول أوروبي غير مسلم يقدم النبي مستعملا تعابير مدح كهذه. ولكن ستوب (Stubbe)، مثل ألكساندر وتوماس روس (Alexander and Thomas Ross)، عندما يكتب عن محمد، فإنه فوق كل ذلك يكتب عن السياسة الإنجليزية. كان ستوب (Stubbe) صديقا لتوماس هوبز (Thomas Hobbes) ومعجبا به، وكان يراسله بصورة متكررة: فقد كان ستوب (Stubbe) في خمسينات القرن السابع عشر، يعمل على ترجمة كتاب هوبس ليفياثان (Leviathan) إلى اللاتينية. ومحمد عنده يتلاءم بطريقة جيدة مع نموذج الملك الصالح في كتاب ليفياثان (Leviathan)، الذي يستخدم تعاليم دين طبيعي وبسيط للتأكيد على الأخلاق وتدعيم السلطة، دون أن يسلم السلطة إلى طائفة من الكهنة الجشعيين.
الخلافات العقيمة
اقترح هوبز (Hobbes) دينًا مدنيًا وطبيعيًا مكرسًا لتمجيد الإله الواحد، والذي يُحظر فيه الخلافاتُ العقيمةُ حول طبيعته، نظرًا إلى أن “مقادير الخلاف حول طبيعة الاله … لا تميل إلى تمجيده، ولكن تنزع إلى تمجيد ذكائنا وتعلمنا؛ وهي ليست شيئا سوى أنها انتهاكات متهورة وعديمة الفائدة لاسمه المقدس”. محمد عند ستوب (Stubbe) هو ملك هوبسي يعود إلى شكل بسيط للتوحيد الطبيعي والمنسجم مع دين المسيحيين الأوائل. لم يكن عمل ستوب (Stubbe) مجرد ممارسة أكاديمية في تاريخ الدين: بل هو عمل جدلي يستهدف الكنيسة الأنجليكانية والملكية. مثل محمد، يجب على الملك تجريد الكهنة من سلطتهم وحظر العقيدة الخرافية، والعودة إلى التوحيد البسيط والعقلاني للمسيحيين الأوائل. كما يجب أن يسمح للطوائف المتنوعة بممارسة طقوسهم الدينية، تمامًا كما يفعل “المحمديون”. بمعنى آخر، يجب على تشارلز الثاني (Charles II) أن يصبح محمدًا جديدًا.
في إنجلترا في القرن السابع عشر، كان الحديث عن الإسلام، وخاصة عن محمد، وسيلة لانتقاد السلطات سواء كانت الملك أو الكنيسة أو الكومنولث، وعندما يكون المزيد من النقد المباشر غير ممكن. وكان أحد نتائج هذا الاستخدام الخطابي للإسلام هو جعله مألوفا ومستأنسا: فلم يعد محمد البتة شخصية بعيدة وغريبة، بل أصبح شخصية مألوفة، هو المصلح الجمهوري الذي قد يُعجب أو يستخف الفرد به. وفي القرن الموالي، استخدم المؤلفون الفرنسيون شخصية النبي على نحو مشابه، واصفين إياه على أنه بطل ضد الإكليروس، وقدوة للملوك الأوروبيين المستنيرين الذين يجب عليهم إلغاء امتيازات رجال الدين الكاثوليك.
* جون تولان (John Tolan) هو مؤلف كتاب وجوه محمد: التصورات الغربية لنبي الإسلام من العصور الوسطى إلى اليوم (Faces of Muhammad: Western Perceptions of the Prophet of Islam from the Middle Ages to Today, Princeton University Press, 2019).